شرف الإنسان
ما أزال أتعجب ممن يرى تفضيل الملائكة على الأنبياء والأولياء!
فإن كان التفضيل بالصور، فصورة الآدمي أعجب من ذوي أجنحة،
وإن تركت صورة الآدمي لأجل أوساخها المنوطة بها، فالصورة ليست الآدمي، إنما هي قالب!
ثم قد استحسن منها ما يستقبح في العادة، مثل: خلوف فم الصائم، ودم الشهداء، والنوم في الصلاة،
فبقيت صورة معمورة، وصار الحكم للمعنى. ألهم مرتبة يحبهم أو فضيلة يباهي بهم؟!
وكيف دار الأمر، فقد سجدوا لنا، وهو صريح في تفضيلنا عليهم.
فإن كانت الفضيلة بالعلم، فقد علمت القصة يوم: {لا عِلْمَ لَنَا} [البقرة: 32] {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ} [البقرة:33].
وإن فضلت الملائكة بجوهرية ذواتهم، فجوهرية أرواحنا من ذلك الجنس، وعلينا أثقال أعباء الجسم.
بالله، لولا احتياج الراكب إلى الناقة، فهو يتوقف لطلب علفها، ويرفق في السير بها، لطرق أرض منى قبل العشر.
واعجبًا! أتفضل الملائكة بكثرة التعبد؟! فما ثم صعاد. أو يتعجب من الماء إذا جرى، أو من منحدر يسرع؟!
إنما العجب من مصاعد يشق الطريق، ويغالب العقبات!
بلى، قد يتصور منهم الخلاف، ودعوى الإلهية؛ لقدرتهم على دك الصخور وشق الأرض،
لذلك تواعدوا: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29]، لكنهم يعلمون عقوبة الحق فيحذرونه.
فأما بعدنا عن المعرفة الحقيقية، وضعف يقيننا بالناهي، وغلبة شهوتنا مع الغفلة، فيحتاج إلى جهاد أعظم من جهادهم.
تالله، لو ابتلي أحد المقربين بما ابتلينا به، لم يقدر على التماسك، يصبح أحدنا، وخطاب الشرع يقول له: اكسب لعائلتك، واحذر في **بك!
وقد تمكن منه ما ليس من فعله، كحب الأهل، وعلوق الولد بنياط القلب، واحتياج بدنه إلى ما لا بد منه.
فتارة يقال للخليل عليه السلام: اذبح ولدك بيدك! واقطع ثمرة فؤادك بكفك! ثم قم إلى المنجنيق لترمى في النار!
وتارة يقال لموسى عليه السلام: صم شهرًا؛ ليلًا ونهارًا.
ثم يقال للغضبان: اكظم! وللبصير: اغضض! ولذي المقول: اصمت! ولمستلذ النوم: تهجد! ولمن مات حبيبه: اصبر!
ولمن أصيب في بدنه: اشكر! وللواقف في الجهاد بين اثنين: لا يحل أن تفر!
ثم اعلم أن الموت يأتي بأصعب المرارات، فينزع الروح عن البدن، فإذا نزل، فاثبت!
واعلم أنك ممزق في القبر، فلا تتسخط؛ لأنه مما يجري به القدر! وإن وقع بك مرض، فلا تشك إلى الخلق!
فهل للملائكة من هذه الأشياء شيء؟! وهل ثم إلا عبادة ساذجة: ليس فيها مقاومة طبع، ولا رَدُّ هَوًى؟!
وهل هي إلا عبادة صورية بين ركوع وسجود وتسبيح؟! فأين عبادتهم المعنوية من عبادتنا؟!
ثم أكثرهم في خدمتنا، بين كتبة علينا، ودافعين عنا، ومسخرين لإرسال الريح والمطر، وأكثر وظائفهم الاستغفار لنا.
فكيف يفضلون علينا بلا علة ظاهرة؟!
وأما إذا ما حكت على محك التجارب طائفة منهم -مثل ماروي عن هاروت وماروت1-، خرجوا أقبح من بهرج.
ولا تظنن أني أعتقد في تعبد الملائكة نوع تقصير؛ لأنهم شديدو الإشفاق والخوف، لعلمهم بعظمة الخالق،
لكن طمأنينة من لم يخطئ تقوي نفسه، وانزعاج الغائص في الزلل يرقي روحه إلى التراقي.
فاعرفوا -إخواني- شرف أقداركم، وصونوا جواهركم عن تدنيسها بلؤم الذنوب،
فأنتم معرض الفضل على الملائكة، فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.