شعائر الموت ومعتقداته
في المشرق العربي القديم
أحمد نديم قزموز
آثار
سنة أولى
ثمة شيئان
لا يمكن للمرء أن يحدِّق فيهما: الشمس والموت. والموت، ضمن المنظور الإنساني، يبدو
أنه غير محبَّذ، لا بل يتمُّ تجاهلُه، كونه يشكِّل مصدر الخوف من المجهول. ومعلوم
أن للخوف أذنين كبيرتين وعينين أيضًا!
ولعل أول
صدمة جابهت الإنسان في وجوده على الأرض (لاسيما مع تطوُّر القشرة الدماغية والقسم
الطرفي من الدماغ) هي صدمة الموت. ولم يكن هذا ليتحقق لولا توافر مجموعة من
الإشراطات والمعادلات الفسيولوجية والبيولوجية على صعيد الدماغ الإنساني والجسد البشري،
أولاً، ثم تداخلات المناخ والبيئة الطبيعية، ثانيًا.
والموت
همٌّ فردي؛ وتجمُّع الهموم الفردية أدَّى إلى نشوء هموم للتجمعات الإنسانية
القديمة. ولكن مع تقدُّم عمل الدماغ وتطوره، ونشوء المجتمعات الأولى، من بعدُ، لم
يكن ثمة همٌّ مجتمعي من الموت، لأن المجتمعات تبقى، بينما الأفراد يزولون. وبذلك
صار المقياس الأوحد في دراسة المجتمعات وظواهرها هو مدى انعكاس حياة الفرد في
الجماعة، ومدى انتمائه لها. وبذلك يستمر المجتمع ويزول الأفراد، ولا يبقى منهم إلا
ما قدَّموه للمجتمع من تطوير وإبداع. ولعل قمة الإبداع تكمن في التضحية من أجل
المجتمع.
وبهذا يصير
الموت، على المستوى الاجتماعي، ليس نقيضًا للحياة، بل جزءٌ منها. ولعلَّ الانشغال
بظاهرة الموت اقتضى مرورَ ملايين السنين من الوجود البشري على الأرض، حتى غدا دماغ
الإنسان قادرًا على وعي هذه الظاهرة، واستنباط الحلول التعويضية (لاشعوريًّا)
تجاهها. وهذا ما سنحاول رصده من خلال تاريخ الوجود البشري في المشرق العربي
القديم، الذي يرقى إلى حوالى المليون سنة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الوثائق هنا
(لعدم وجود الكتابة بعد) تعتمد على اللُّقى والأدوات التي تركها ذلك الإنسان
القديم، بالإضافة إلى بعض البُنى والكثير من المدافن والقبور ومحتوياتها، ولاسيما
مع ظهور إنسان النياندرتال منذ حوالى100000 سنة.
ظهور
الإنسان على الأرض وفي المشرق العربي القديم
حددتْ دراساتُ علوم ما قبل التاريخ وجود الإنسان
على الأرض بحدود ثلاثة ملايين سنة من الآن، وذلك في أفريقيا – هذا حتى الآن. أما
في المشرق العربي فدلائل أول وجود إنساني تعود إلى حوالى مليون عام، بحسب سلطان
محيسن[1]؛ وبعضهم يعيده إلى مليون ونصف المليون عام، بحسب زيدان كفافي[2] – وهذا
أيضًا حتى الآن. وتذكر الدراسات أن الإنسان القديم الذي أتى إلى المشرق العربي جاء
من أفريقيا عبر طريقين: الأولى، ساحلية على امتداد البحر المتوسط؛ والثانية، على
طول الانهدام السوري–الأفريقي، الممتد من جنوب وشرق أفريقيا، مرورًا بالبحر
الأحمر، ثم وادي عربة، ثم وادي الليطاني، فوادي العاصي شمالاً.[3]
وحتى الآن،
يبدو أن أقدم آثار لإنسان ما قبل التاريخ خارج أفريقيا عُثِرَ عليها في سورية، في
موقع ست مرخو قرب اللاذقية. كما عُثِرَ على آثار لهذا الإنسان في موقع خطاب قرب
حماة على العاصي وموقع العبيدية في فلسطين، الذي يؤرَّخ بحدود 700,000 سنة، حيث
عُثِرَ هناك على أجزاء من هياكل عظمية إنسانية هي الأقدم في تاريخ المشرق العربي.
كانت حياة
ذلك الإنسان تعتمد على الصيد والتقاط الثمار؛ وكان يتنقل خلف مصادر غذائه الحيواني
والنباتي. ولم تكن ثمة خصوصية حضارية؛ بل إن صفات إنسان تلك المرحلة كانت متقاربة
في كلِّ أنحاء العالم. وفي موقع اللطامنة في سورية، الذي يؤرَّخ بحدود 500,000
سنة، عُثِرَ على دلائل مبكرة لاستعمال النار والشروع في البناء. وباطِّراد كانت
تلك التجمعات الإنسانية تتطور، وكانت تعتبر نفسها جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة؛ لا
بل إن إنسان تلك المرحلة كان يظن نفسه واحدًا من خصائص الطبيعة. وهذا لم يكن إلا
نتيجة لعدم تطور الدماغ لديه، ولاسيما قشرته الدماغية؛ ما اقتضى مرور مليونين
وتسعمئة ألف سنة على صعيد الإنسان الأفريقي، وتسعمئة ألف سنة على إنسان المشرق
العربي، لكي تحصل طفرة في بنيته الدماغية تدفعه نحو الأمام في وعي ظاهرة الموت
لأول مرة منذ وجوده على الأرض. فما قبل ذلك لم يقدِّم الدماغُ له أوليات الدفاع عن
موتاه، فتركها نهبًا للوحوش المفترسة والجوارح – حتى كان تطور الإنسان القديم
المنتصب إلى إنسان النياندرتال، وذلك منذ حوالى 100,000 سنة، حيث يؤكد فرنسيس أور
أن "بلاد الشام تشكِّل مكانًا أصيلاً لإنسان النياندرتال"[4].
النياندرتال
المشرقي (100,000-40,000 سنة): مقاربة أنثروبولوجية
تدل
الأبحاث العلمية البيولوجية والفسيولوجية على أن دماغ الإنسان يتألف من ثلاثة
أقسام: القشرة الدماغية، والقسم الحوفي، والدماغ الزواحفي. أما المظاهر العاطفية
والدينية فهي من اختصاص القسم الحوفي؛ في حين أن القشرة الدماغية تُعنَى بفعل
الإدراك. ومعلوم أن القشرة الدماغية تؤلِّف، حسب كارل ساغان، حوالى 90% من دماغ
الكائنات الحية.[5]
لهذا، حين
نرصد ظاهرة وعي الموت عند مجتمع النياندرتال، فإننا لا بدَّ واقعون على حقيقة أن
ثمة تطورًا حصل في القسم الحوفي والقشرة الدماغية. ويؤكد ساغان على أن حياة الصيد
والالتقاط لدى الإنسان القديم، والحضارة التكنولوجية لدى الإنسان المعاصر، هما من
نتاج القشرة الدماغية.[6] وقد دلَّتْ الأبحاث العلمية أيضًا، لدى دراسة الجانب
الداخلي لجمجمة إنسان النياندرتال، إلى أن التناسب القائم بين مختلف أجزاء المخ
يجعل الإمكانات العقلية عنده قريبة من مثيلتها عند الإنسان العاقل، الذي تطور في
المشرق العربي منذ حوالى 40,000 سنة عن سلفه النياندرتال.[7] والمعلوم أن الإنسان
العاقل السوري هو جدُّنا المباشر؛ أما الجدُّ البعيد فهو إنسان النياندرتال.
وعلى هذا،
يمكننا القول، مع ساغان، بأن سلوكنا نحن الآن لا يزال واقعًا، إلى حدٍّ كبير، تحت
سيطرة ما ورثناه عن أسلافنا.[8] لا بل إن كارل غوستاف يونغ، رائد علم النفس
التحليلي، يركِّز في طروحاته على أن "لا شيء يدلُّ على أن ذلك الإنسان يفكر أو
يشعر أو يدرك بطريقة تختلف اختلافًا أساسيًّا عن طريقتنا في التفكير أو الشعور أو
الإدراك"[9]؛ فأداؤه النفسي هو جوهريًّا أداؤنا نفسه، ولا يختلف عنَّا إلا في
مسلَّماته الأولية. ويؤكد أيضًا أن ذلك الإنسان (النياندرتال ثم العاقل) ليس وحده
الذي يمتلك سياقات نفسية قديمة، وإنما إنسان عالم اليوم المتمدِّن الذي، بدوره،
يكشف عن هذه السياقات النفسية القديمة، دون أن تكون هذه السياقات مجرَّد ارتدادات
متفرقة أتَتْ الإنسان الحديث من صعيد الحياة الاجتماعية. ويصل يونغ للقول:
"كلُّ إنسان متمدِّن، مهما بلغت درجة نموِّ وعيه، لم يزل إنسانًا قديمًا في
الطبقات السفلى من كيانه النفسي. فكما أن الجسم البشري يوصلنا بالثدييات ويكشف لنا
عن بقايا كثيرة من تطور مراحل أولية ترجع إلى عصر الزواحف، فكذلك النفس البشرية
نتاج تطور، إنْ تابعنا أصوله، تكشَّف لنا عن عدد لا حصر له من السمات القديمة."
مجتمعات
النياندرتال في المشرق العربي القديم
عاش
النياندرتاليون في المشرق العربي في الكهوف والمغائر، واستطاعوا أن يكيِّفوها بحسب
احتياجاتهم وحوائجهم؛ كما استخدموا النار، وصنعوا الأسلحة الصوانية، ومارسوا الصيد
عبر رجالهم. أما نساؤهم فكنَّ يلتقطن البذور والثمار والجذور الصالحة للطعام؛ كما
كنَّ يصنعن الملابس من جلود الحيوان.
وقد أدى
تطور البنية الدماغية لديهم إلى وعي لظاهرة الموت؛ لا بل أضحى مشهد موت إنسان
يُدهِشُهم، عبر انتقاله المفاجئ من كائن مدرك وواعٍ، دافئ وممتلئ بالحيوية، إلى
جثة ساكنة وباردة وشاحبة وقابلة للتعفن، مما أصابهم بالصدمة الأولى؛ وهذا ما دفعهم
إلى مواراة الجثة في التراب، وإجراء الدفن المتعمد والإرادي، لأول مرة في تاريخ
الوجود البشري. وقد بدا أن التطور الروحي الذي بلغه إنسان النياندرتال تَجاوَزَ ما
بلغه في الحياة الاقتصادية.[10]
وقد أدت
التنقيبات الأثرية إلى العثور على مواقع نياندرتالية عدة في المشرق العربي، لعل
أهمها:
أ. موقع مغارة الديدرية قرب حلب: يؤرَّخ هذا
الموقع بحدود 100,000 سنة، حيث عُثِرَ فيه على حوالى 70 قطعة عظمية بشرية تعود
لهياكل نياندرتالية مختلفة. وفي مطلع التسعينيات، تمَّ العثور على هيكل عظمي لطفل
عمره سنتان وطوله 82 سم، حيث دُفِنَ في حفرة مستلقيًا على ظهره، أما يداه
فممدودتان وقدماه مثنيتان؛ وعُثِرَ تحت رأسه على بلاطة حجرة، كما وعلى صدره فوق
قلبه؛ ويعود تأريخه إلى حوالى 100000 سنة. وفي عام 1997 عُثِرَ على هيكل عظمي لطفل
ثانٍ في العمر نفسه. وقد دلَّتْ طرق الدفن على أسلوب منظَّم ومدروس، يرقى إلى
حوالى 80000 سنة. وهذا الكشف المهم يمثل، حتى الآن، أقدم عملية دفن للموتى في
التاريخ البشري.
ب. وفي فلسطين، عُثِرَ في مغارة قفزة على مقبرة
بشرية تحوي 12 جثة نياندرتالية أُرِّخَتْ بحدود 50,000 سنة؛ وكانت الجثث لـ6 أموات
كبار و7 أطفال. وأهم ما عُثِرَ عليه فيها، مما يعني دلالة لها معناها الاجتماعي
والروحي، هو قبر امرأة شابة مستلقية على جنبها الأيسر ومطويَّة الرجلين، والى
جانبها طفلها الواضع رأسه على صدرها، في حين كان بين يديه غزال (رمز الخصب).
ت. ويبدو أن هذا يدل على وجود مفهوم للأسرة عند
النياندرتاليين. وهذا ما سيتضح أكثر في موقع سبق هذا الموقع بحوالى عشرة آلاف سنة،
وأقصد موقع شانيدار في العراق، الذي يؤرَّخ بحدود 60,000 سنة. فقد عُثِرَ في الكهف
على هيكل عظمي لرجل نياندرتالي في الأربعين من عمره؛ وبدا من الفحص العلمي أنه
يعاني منذ طفولته من شلل نصفي، كما أنه أعور ويعاني من التهاب في المفاصل، ويبدو
أنه مات في شهر حزيران. والطريف في الأمر أن أمراضه لم تُمِتْه، ولكن الذي قتله
سقوطُ صخرة من سقف الكهف عليه. إن الدلالة الروحية–الاجتماعية لدى هذا الإنسان
تشير إلى مبلغ العناية التي أحيط بها – وهو المشلول والأعور. ويتبدى ذلك أكثر في
أن أهله فرشوا قبره بالورود (دلَّ على ذلك تحليل حبَّات الطلع).
ث. وفي كهف السخول في فلسطين عُثِرَ على هياكل
عظمية في مقبرة جماعية، تراوحتْ أعمارُ موتاها بين 3-50 سنة. ولوحظ أنه لم توجد
مرفقات جنائزية مع الموتى، إلا مع أكبرهم سنًّا، حيث كان يقبض بيده على عظم فكٍّ
علوي لخنزير بري (وربما يدل هذا على وجود أو تبلور بداية مفهوم للسلطة أو القيادة
عند النياندرتاليين). ولوحظ أن مدافن الرجال والأطفال عندهم تفوق عددًا مدافن
النساء.
[ويعجُّ
المشرق العربي بمواقع نياندرتالية، مثل موقع الكبارا، وعدلون، ويبرود، وكهف
الدوارة، وجرف العجلة، وأم التلال، ومغارة العصفورية شمال بيروت.]
ويبدو أن
بنية الدماغ كانت آخذة بالتطور، ما دفع الإنسان النياندرتالي في أواخر عهده في
المشرق العربي (لاسيما في فلسطين)، إلى الاتجاه نحو التطور إلى الإنسان العاقل،
جدِّنا المباشر، وذلك في حدود 40,000 سنة.[11]
الإنسان
العاقل في المشرق العربي القديم (40,000)
نحن الآن
أمام جدِّنا المباشر وجهًا لوجه. فهو يمتلك تقريبًا كلَّ الصفات الفسيولوجية والاجتماعية
التي يملكها إنسانُنا الحالي. فطردًا مع تطور بنيته الدماغيه، وحجم دماغه، تطورتْ
أساليبُ عيشه، وتطورتْ حياتُه الروحية والاجتماعية والاقتصادية. ويبدو أنه صار
يفهم الطبيعة أكثر؛ فهو جزء منها، لكنه يحاول الانفكاك عنها عبر السيطرة عليها.
كلُّ هذا أدى إلى تطور في مناحيه الروحية، وبالتالي المعتقدية والفنية، وبقي
صيادًا ولاقطًا مع تبلور إحساس اجتماعي أقوى من سلفه.
أما شعائر
الموت لديه فقد استمرت على ما كانت عليه عند سابقه، مع ميل إلى العناية بشكل واضح
بالموتى؛ دلَّ على ذلك أن المرفقات الجنائزية ازدادت، وطرق الدفن أصبحت أكثر
تعقيدًا: فقد بقي يدفن موتاه داخل الكهوف، في وضعية القرفصاء؛ ويبدو أنه اتجه لدفن
الأموات قرب المواقد، كما كان يفعل سلفُه النياندرتالي (ربما لأن برودة الجثة
دفعته لتدفئتها، عسى أن تعود إليها الحياة). كما أن طريقة الدفن على وضعية الجنين ذكَّرتْ
بعض الباحثين بأن لدى الإنسان العاقل ميلاً روحيًّا، لاعتبار أن الدفن الجنيني هذا
ربما يعيد الميت إلى الحياة، كون الأرض رحمًا! لكننا نستبعد مثل هذا الاعتقاد لدى
الإنسان العاقل، ونميل إلى الأخذ باعتبار أن مساحة الكهف هي التي حدَّدتْ وضعية
الدفن الجنيني؛ أو ربما اتخذت جثة الميت هذه الوضعية بشكل طبيعي، نتيجة موت طبيعي،
وما إلى ذلك.
وقد لوحظ
أيضًا أن الجثث بدأت تُطلى بالمغرة الحمراء. ونعتقد أن هذا يدخل في مجال التعويض
عن الشحوب الذي يعتري الجثة. وهذا ما أثبتتْه الأبحاث العلمية على قبائل بدائية
تعيش في أفريقيا حتى الآن، حيث ظهر أنهم مازالوا يصبغون الجثث بهذه المغرة
لاعتقادهم بأنها علامة الحياة.[12]
ولوحظ
أيضًا أنه لدى الإنسان العاقل بدأ يتشكل إحساسُ الرهبة من الموت. وقد دلَّ على ذلك
أنهم كانوا يضعون أحجارًا ضخمة على أيدي الميت وأقدامه وصدره، ربما كي لا يستطيع
القيام والعودة إلى الحياة، وبالتالي إيذاء الأحياء. وهذا ما أكَّدتْه الأبحاث
الأنثروبولوجية التي أجريت على قبائل بابوا في غينيا الجديدة، حيث لوحظ أنهم يضعون
الحجارة الكبيرة على رأس الميت وصدره وقدميه.
[ومن مواقع
الإنسان العاقل في المشرق العربي هناك كهف الواد، قفزة، عرق الحمر، الكبارا، مصطبة
الخيام، كهف الأميرة، كسار عقيل، أنطلياس، يبرود، الكوم، تدمر.]
وفي حوالى
العام 12000 اعتدلت البيئة والمناخ بشكل يتماشى مع تطور مجتمعات الإنسان العاقل،
وازداد مردود الثروات الطبيعية، وبدأت تلك المجتمعات تبني قراها نصف المستقرة. ومع
هذا لم تغادر الكهوف نهائيًا؛ وبقيت أساليب الدفن متواصلة على ما كانت عليه، مع
ميل نحو ظهور مظاهر دفنية معمارية، تمثلت بصفَّين من الحجارة للمدافن. وتغيرت
أدوات المرفقات الجنائزية، مع الحفاظ على ما سبق، حيث عُثِرَ في أحد القبور في
موقع الكبارا على ثلاثة حجارة طحن، أحدها مدقة موضوعة فوق الرأس؛ كما عُثِرَ على
زبدية بازلتية بجانب الرقبة، وعلى جزء من حجر الطحن أيضًا. فهل هذا يدل على مهنة
صاحب القبر، وبالتالي الإيحاء بأن بعض الرجال في هذه الفترة مارسوا الحرف والمهن
بديلاً عن الصيد؟ ربما، لأن هذه المرفقات "المهنية" سوف نجدها بغزارة في
قبور العصور التاريخية مع أصحابها. وفي العراق، في كهف شانيدار، عُثِرَ على قبر
لطفل من تلك الفترة، احتوت مرفقاتُه على مئات القطع من الخرز والأحجار المتنوعة؛
كما عُثِرَ على قبر امرأة حوى سكينًا بقبضة عظمية ونصلة صوانية.
ومع حلول
الألفية العاشرة، ونتيجة للتطور الآخذ صعدًا في مجاري الحياة
الاقتصادية–الاجتماعية والروحية، بدأنا نلحظ أننا أصبحنا أمام مجتمعات متجانسة،
تميَّزتْ بالسكن في البيوت؛ وتحولت الجماعة إلى مرحلة القبيلة، وبقيت تمارس الصيد
والالتقاط، ولم تغادر الكهوف نهائيًّا.
أما فيما
يتعلق بطرق وشعائر الدفن فقد بُنِيَتْ المقابر الكبيرة، ومورست عملية الدفن الفردي
والجماعي. ويبدو أن المقابر انفصلت عن المساكن وبقيت إلى جوارها؛ كما طُلِيَتْ
الجثث بالمغرة الحمراء. وهذا لا يعني أن الدفن لم يكن يجري في المساكن؛ فقد عُثِرَ
على عمليات دفن تحت أرضيات البيوت. وهنا يبدو أنه قد حصل انعطاف في البنية الذهنية
للإنسان، حيث بدأت بواكير فصل الجمجمة عن الجسد ودفنها منفردة، بما يوحي ببوادر
نشوء اعتقاد "عبادة الأجداد"، الذي سوف يتضح أكثر في العصور اللاحقة.
[مواقع هذه
الفترة: عين الملاحة، المريبط، الجرف الأحمر، أبو هريرة، نهر الحمر، الطيبة،
جيرود، شقبة.]
والملاحظ،
في هذا المجال، أن الدفن كان يتم في قبور منتظمة؛ أما المرفقات الجنائزية فكانت
عبارة عن أسلحة حجرية وأسنان ولؤلؤ وقرون غزال، بالإضافة إلى سنِّ حصان وأجزاء
حيوانية أخرى.[13]
وفي الفترة
بين 8300-6000 ق م، تمَّ ولوج البشرية منعطفًا جديدًا عبر الثورة الزراعية التي
خرجت من المشرق العربي القديم إلى العالم. ويبدو أن هذه الثورة العلمية ما كانت
لتتحقق لولا تراكم مجمل المعطيات على مجرى العصور السابقة، ما أدى إلى حصول هذا
الابتكار المشرقي العربي الذي سيعكس، من الآن فصاعدًا، جملة من المعايير
والاعتقادات، ويخلق، بالتالي، تحولات اقتصادية واجتماعية وروحية مهمة، أكان على
صعيد دورة الحياة أو على الصعيد الذهني البشري. فقد أدى هذا التحول إلى نشوء القرى
الزراعية الثابتة والمستقرة. ويبدو أن الإنسان بدأ يهجر الكهوف والمغائر نهائيًّا؛
ولكن هذا لا يعني أنه لم يستمر في حياة الصيد والرعي، لا بل إن حياة المجتمعات
آنذاك شملت عالم الزراعة، بالإضافة إلى عالم الصيد والرعي، اللذين تعايشا جنبًا
إلى جنب في دورة اقتصادية–اجتماعية واحدة، سوف توثِّقها أساطير العصور التاريخية،
ولاسيما أسطورة المزارع والمراعي، ووثائق المشرق العربي في الألفيتين الثالثة
والثانية ق م.
ومع ابتكار
الزراعة، انتقل الإنسان، بوصفه جزءًا من الطبيعة، إلى الانفصال عنها والسيطرة
عليها. وهذا سوف يؤثر في بنيته الذهنية وفي تفاعله مع الطبيعة ونواميسها، الذي
يتركز في ظاهرة الموت – الموت الدوري للنبات، ومن بعدُ انبعاثه في مواجهة الموت
الخطي قبل الانفصال عن الطبيعة، ولاسيما في نشوء ظواهر الاعتقادات الدفنية الخصبية
التي تجلَّت في ميلٍ اعتباري إلى الثور (الظاهرة الأقدم)، وعبادة الأم الكبرى،
وصولاً إلى الأرواحية أو عبادة الأجداد، التي يُعبَّر عنها بعبادة الجماجم عبر
فصلها عن الأجساد.
ففي حوالى
منتصف الألفية الثامنة ق م سوف تغدو الجماجم موضع اهتمام كبير؛ وهذا ما توضَّح في
مواقع هذه الفترة. ففي المريبط عُثِرَ على هياكل دُفِنَتْ بلا رؤوس تحت أرضيات
بيوت السكن. أما الجماجم، فبعد فصلها عن الأجساد، كانت توضع على امتداد جدران
المنازل لاعتبارات اعتقادية. كذلك عُثِرَ على هذه الظاهرة عينها في أريحا في
فلسطين. ولم تكن الجماجم لتُترَك، بل إنهم كانوا يعالجونها كنوع من التعويض على
المستوى النفسي الجمعي، ويحاولون إعادة تشكيلها من الجصِّ، وصبغها بما يماثل لون
البشرة، ثم تُنزَّل العيون بالصَّدَف أو القواقع، وتُرسَم على الجمجمة خيوط بنية
كدلالة عل شعر الرأس.
[قد عُثِرَ
على هذه الجماجم المقبولة في مواقع عدة: في أريحا وبيسامون ووادي حمار وفي تل
الرماد.]
مقاربة
نفسية–أنثروبولوجية لظاهرة الأرواحية (عبادة أرواح الأجداد)
تدل
الأبحاث العلمية والميدانية الأنثروبولوجية على وجود جماعات بدئية تعيش إلى الآن
منعزلة في أماكن عدة من المعمورة، ولاسيما في أفريقيا وأستراليا والإسكيمو، مازالت
تمارس الأرواحية التي مرت بها المجتمعات الإنسانية في أطوارها السالفة. وقد
بيَّنتْ هذه الدراسات الميدانية أن سكان هذه الأماكن يعتقدون أن الأجداد يستمرون
في التدخل في حياة الجماعة، لا بل ويُظهِرون موافقتهم أو عدمها عبر مدلولات
طبيعية، كونهم مازالوا جزءًا من الطبيعة وخاصية من خواصها. ولعل الأحلام عند هؤلاء
تلعب دورًا مهمًّا في ربط عالم الأموات مع عالم الأحياء.[14] ويبدو أن عبادة
الأجداد تنزع، في جملة ما تنزع إليه، إلى تمتين أواصر اللحمة بين الجماعة
واستمرارية تقاليدها وأخلاقها التي صاغها الأجداد. وبذلك تتضح ظاهرة المعتقد هنا
بأنها ظاهرة اجتماعية بحتة، أوْجَبَتْها ظروفُ الصراع في الحياة من أجل البقاء.
فبحسب تلك
الجماعات أن الجدَّ المدفون يجعل الأرض خصبة، إذا عرفوا كيف يكسبون عطفه. لهذا،
إذا أرادت جماعة ما أن تهاجر فينبغي أن تحمل جماجم أجدادها معها. فالأجداد، إذن،
هم جزء من المجتمع الإنساني الحي. وعلى حدِّ قول فرويليش فإن عبادة الأجداد هي
عقدة من سلسلة طويلة اسمها الزمن.[15] لهذا فإن معرفة الأنساب والحفاظ عليها لها
فائدة كبرى في المجال الاجتماعي، حيث تمتِّن الأواصر الاجتماعية بقيادة الأجداد.
إذًا هي ظاهرة قبلية بامتياز: فالأجداد هم ضامنو النسب للقبيلة، وعبادتهم تضمن
استمرارية التقاليد والأخلاق الاجتماعية بين أفراد الجماعة؛ كما أن هذه العادة
تؤدي إلى توازن في المستوى النفسي الجمعي بين عالم الأحياء وعالم الأموات، بما
يضمن استمرارية دورة الحياة للأجداد واستمرارية حياة الأموات في وجود الجماعة.
وهذا ما يُطلَق عليه تعبير "الأخلاق النفعية". ويختصر أحد شيوخ القبائل
التي دُرِسَتْ عبادةَ الأجداد بقوله: "إن الأموات يعيشون بقدر ما نفكِّر بهم،
وعلينا أن نطيعهم."[16]
ويُشار
أيضًا، في هذا المجال، إلى وجود ظاهرة أخرى هي ظاهرة الأقنعة التي عُثِرَ عليها في
موقع وادي حمار، حيث إن هذه الأقنعة توحي بتظاهرات ذات طابع جمعي شعبي؛ إذ كان
القناع يصمَّم لكي يضعه أحد الأشخاص (كرمز أرواحي)، وتُقام طقوس وشعائر، ربما في
عيد الأموات. ويشير جاك كوفان أنه ربما يحمل دلائل خصبية.[17] وكانت الأقنعة
تُثقَب بثقوب دائرية؛ أما الأنف فعبارة عن نتوء قليل البروز، والفم نصف مفتوح،
وثمة تلاوين بالأحمر والأخضر تشكل خطوطًا مشعَّة من المركز باتجاه محيط الوجه.
وتحمل هذه الأقنعة على طرفها صفًّا من الثقوب من أجل تثبيتها، مع وجود آثار حُمرة
تدل على استخدام مادة لاصقة لشعر مستعار. ويشير كوفان إلى أن هذا الطقس إنما يعبِّر
عن أصل المسرح المقدس في المشرق العربي، ويعتقد أنه ربما يعود لعصور أقدم بكثير من
زمنه.[18]
الفترة بين
6000 – 5000 ق م
استمر تطور
المجتمعات الزراعية مع تعايشها مع مجتمعات الصيد والرعي. وقد بقيت طقوس الدفن تتم
تحت أرضيات المساكن أو بالقرب منها. وقد شملت المرفقات الجنائزية أواني فخارية
وحجرية ودمى نسائية وحيوانية، مع ملاحظة أنه لم يُعثَر في مواقع تلك الفترة على
دلائل تشير إلى استمرار عقيدة عبادة الأجداد، كما لم يُعثَر (حتى الآن) على جماجم
مُقَوْلَبَة، مع اعتقادنا أنها استمرت لأنها ستظهر في العصور اللاحقة.
[أهم
مواقعها: رأس شمرا، والعمق، والكوم، وبقرص (سورية)؛ ووادي اليرموك، والحولة،
وأريحا، ووادي رباح (فلسطين)؛ أما في لبنان فأرض قليلة، وجبيل؛ وفي العراق أم
الدباغية، وتل حسونة، وسامراء.]
الفترة بين
5000 – 3500 ق م
تطورت
التقنية في مجال الزراعة إلى الريِّ الصناعي والأقنية، وأصبحت الزراعة أكثر
إنتاجية. ومن المدافن يُستنتَج أن ثمة تمايزًا اجتماعيًّا يبدأ بالظهور بين الكهنة
ورجال الدين والسلطة والتجار، من جهة، وبين بقية الناس، من جهة أخرى. فقد حفلت
قبور الأغنياء بالمعادن الثمينة، ولاسيما الذهب والفضة.[19]
مجتمعات
هذه الفترة مارست الدفن؛ ويبدو أنهم دفنوا الجماجم بمعزل عن الأجساد، ما يشي
بعبادة الأجداد، التي سوف تستمر حتى العصور التاريخية، حيث عُثِرَ على عبادة
الأجداد في إيبلا، عبر اكتشاف المقبرة الأمورية هناك التي تعود للألفية الثانية ق
م.[20]
والجدير
ذكرُه هنا هو ظهور ظاهرة دفنية جديدة، تجلَّتْ في حرق الجثث ووضع رمادها في جرار.
وكان هذا يتم للكبار فقط؛ أما الصغار فكانوا يُدفَنون بشكل اعتيادي.[21] وأكثر
الدفن داخل البيوت كان يتم للمواليد الجُدُد المتوفين؛ أما الكبار فكانوا يُدفَنون
خارج البيوت. وقد عُثِرَ في بعض القبور على مرفقات جنائزية، مثل التماثيل
والأواني، مع وجود سُفُن من طين. وهذه دلالة على نشوء مفاهيم جديدة في هذه الفترة
لعالم ماوراء الموت، سوف يتضح في العصور الكتابية، حيث ثمة، في العالم الآخر، نهر
يعبره الإنسان بسفينة كي يصل إلى العالم السفلي.[22]
والذي
يبدو، كما هو واضح من سياق البحث، أن وقفة الإنسان القديم تجاه ظاهرة الموت هي
سلسلة واحدة تبدأ من إنسان النياندرتال، وصولاً، كما سنرى، إلى الإنسان الحديث
والمعاصر، مع فارق بسيط يوضِّحه عالم النفس يونغ بقوله: "إن الإنسان القديم
يفعل ما يفعل، لكن الإنسان المتمدِّن يعرف ماذا يفعل."[23] وفي هذه النقطة
تكمن وظيفة الدماغ ومدى الوعي الإنساني الذي لا حدود له.
استنتاجات
تخص الفترة التي امتدت من حوالى 100000 سنة وحتى 3500 ق م
إن أقدم
دليل أثري على وجود بشري في سورية يرقى إلى حوالى مليون سنة؛ وبعضهم يعيد ذلك إلى
مليون ونصف مليون سنة. إن إنسان النياندرتال في المشرق العربي القديم هو أول من
وعى مسألة الموت، تزامُنًا مع تطور بنية الدماغ لديه، ولاسيما القشرة الدماغية
والقسم الحوفي من الدماغ. وإن عبادة الأجداد (= الأرواحية) تجلَّتْ، منذ بواكيرها،
في حوالى الألفية العاشرة ق م. وهذا يشكِّل انعكاسًا لحالة النظام الاجتماعي
القبلي نصف المستقر الذي مارس الصيد والتقاط البذور. وهنا بدأت بواكير فصل الجمجمة
عن الجسد تتكرَّس وتتبلور مع الثورة الزراعية التي شهدها العالم آنذاك، انطلاقًا
من سورية، وذلك في حوالى منتصف الألفية التاسعة ق م. وكان الدفن يتم تحت أرضيات
الكهوف والمساكن. كما شهدت المنطقة بناء مقابر منتظمة ومعزولة عن المساكن في مواقع
عديدة.
ظاهرة
الموت ومعتقداته في العصور التاريخية (3200 ق م)
نحن هنا مع
استمرار لتقاليد وشعائر الدفن التي كانت سائدة سابقًا، مع ازدياد في التطور لجهة
مناحي الحياة الدفنية، ولاسيما مع بدايات نشوء المدن، ومع فجر الكتابة الذي انطلق
من المشرق العربي القديم. ولعلنا، في مجال متابعة البحث، ولاسيما في العصور
التاريخية–الكتابية، نجد أنه ينبغي الإشارة إلى عدة مرتكزات:
أولها: أن
العصور التاريخية في المشرق العربي تُعَدُّ نقطة اتصال أو حلقة بين العصور ما قبل
التاريخية والعصر الحديث لجهة شعائر الموت ومعتقداته؛ بمعنى أن ثمة استمرارية
حضارية متواصلة – مع الأخذ بعين الاعتبار ما قدَّمته الثورة المدينية (=
العمرانية)، من جهة، وما قدَّمه اختراع الكتابة من معايير وقيم جديدة على حياة
المجتمع آنذاك، والشعائر التي مارسها في مجال الموت، من جهة أخرى. هذا بالإضافة
إلى بدء اعتمادنا على ما خطَّه أجدادُنا على الرُّقُم الطينية، بما أدى إلى توسيع
دائرة الرؤية، لجهة معرفة شعائرهم ومعتقداتهم بشكل يبتعد عن الظنِّ إلى الجزم.
وسوف نجد أن ثمة شعائر ومعتقدات وحياة رمزية مازالت موجودة إلى الآن في حياتنا،
وتستمد جذورها من العصور القديمة.
ثانيها:
كنَّا في مجال العصور ما قبل التاريخية نعتمد على اللُّقى وبقايا المباني والمقابر
والمرفقات الجنائزية لتفسير موقف المجتمع من الموت. أما مع اختراع الكتابة فنحن
الآن مع مسار يأخذ منحيين: الأول، إرجاعي، بما يفسر الرموز والبُنى ما قبل
التاريخية عبر الوثائق الكتابية المكتشفة؛ والثاني، واقعي، بما تقدِّمه الوثائق –
وتدعم ذلك البُنى الأثرية واللُّقى في حيِّز العصور التاريخية. بهذا شكَّلت الوثائق
الكتابية حالة توثيق لمناحي المجتمع كلِّها، ومنها مسألة الموت.
ثالثها:
ابتعدنا، قدر الإمكان، عن الاستعانة بالنصوص الأسطورية والأدبية، ليس لعدم
أهميتها، بل لأننا شئنا البحث في موضوع الموت وشعائره وفق ما كان يجري، لا ما كان
يتم تصوُّره.[24] فالأسطورة، على أنواعها المختلفة، تستند إلى ركائز رمزية؛ وكون
الرمز مشحونًا بانفعال، فلا نعتقد أن البحث العلمي يقوم على الانفعال، بل على
الوقائع الحياتية (لجهة هذا البحث). وسأعطي مثالاً عن الانفعال الذي ذكرت: فقد ورد
في ملحمة جلجامش أنه بنى أسوار أوروك، تلك التي لم يشهد مثلها إنسان.[25] لكن
الكشف الأثري في موقع مدينة حبوبة في سورية أثبت أن سور حبوبة الكبيرة يفوق ضخامة
سور أوروك المعاصر له.[26]
وأيضًا،
فيما يخص مسألة الموت في الأسطورة المشرقية، صحيح أنه كان يعبِّر عن موقف المجتمع
من الموت، لكنه يتضمن، في الوقت نفسه، خلفية للثقافة الزراعية، وصراعًا للرموز
فيما بينها، على قاعدة ثنائية الموت–الانبعاث. ومجالنا نحن هو ليس في التصور
والتخييلات بقدر ما هو رصد الممارسات ومجمل السلوك الإنساني المجتمعي الواقعي الذي
وثَّقتْه كتابات ونصوص المشرق العربي، بعيدًا عن التصورات والانفعالات (هذا مع
احتفاظنا بمقولة إن الفكر الفلسفي انبثق من الأسطورة).
ومع عصر
فجر التاريخ (حوالى 3500 ق م)، نلاحظ أن شعائر الدفن في المشرق العربي القديم بقيت
على حالها، واستمر الدفن تحت أرضيات المساكن (الظاهرة الأقدم)، مع ملاحظة هنا أننا
أصبحنا أمام ظاهرة دفن تتم في الجرار الفخارية، للأطفال أولاً، ثم تشمل الكبار
أيضًا. وفي تلك الفترة، وباطِّراد مع الزمن، لم يُعثَر على ظاهرة فصل الجماجم عن
الأجساد؛ ما يعني أن عبادة الأجداد، أو حتى ظاهرة الجماجم المقلوبة، لم تُظهِرها
المواقع الأثرية حتى الآن. وربما الذي حصل، نتيجة للاتجاه الاجتماعي–الاقتصادي،
ومع بداية تأسيس المدن ونشوء الزعامة بشكل نظام سياسي، أن تحولت عبادة الأجداد
(القبلية) إلى عبادة للملوك وتأليههم بعد الموت، تبعًا للتطور الاجتماعي–الاقتصادي
الحاصل في المجتمعات – دون أن ننسى دور الكهنة في عامل الربط بين السماء والأرض.
ومن ناحية المرفقات الجنائزية (وهذه التسمية نعتقد أنها أفضل من
"الأثاث" الجنائزي)، نلاحظ استمرارية لما كان سائدًا من قبل.
مواقع تلك
الفترة
عُثِرَ في
بيبلوس (جبيل) في لبنان على مقبرة تؤرَّخ بحدود 4000-3100 ق م، حيث دُفِنَ الموتى
داخل جرار كبيرة، بعد أن تمَّ قص أحد جوانب الجرة لإدخال الجثة؛ وتمَّت الاستفادة
من القسم المقصوص بأن صار غطاءًا للجرة.[27] والمرفقات الجنائزية كانت عبارة عن
أوانٍ فخارية كانت تحوي طعامًا وشرابًا؛ وقد زُوِّدَ الموتى بالأسلحة الحجرية
والنحاسية، وشملتْ قبور النساء أدوات زينة وتبرُّج. وفي جرة كبيرة عُثِرَ على هيكل
عظمي لرجل، وإلى جانب هذه الجرة وُجِدَتْ جرة صغيرة حَوَتْ هيكلاً عظميًا لكلب، ما
يشي، باعتقادنا، أن الميت كان صيادًا. وفي أريحا في فلسطين عُثِرَ على قبور محفورة
في المنحدرات الصخرية، ويُعتقَد أن الدفن فيها استمر لأجيال متعاقبة ولمئات
السنين.
وفي العراق
عُثِرَ في موقع تل قاليج آغا على دفن تحت أرضيات البيوت، بالإضافة إلى العثور على
جرار تحوي هياكل أطفال. كانت جرار الأطفال كروية الشكل، ولها فوهات واسعة، حيث
يُدفَن الطفل فيها في وضع جنيني؛ ويتم دفن الجرة في باطن الأرض بعمق يتراوح بين
متر وأربعة أمتار. وفي مواقع أخرى عُثِرَ في بعض القبور على نماذج فخارية لزوارق
شراعية؛ وهذا ما سنناقشه لاحقًا، مستندين إلى النصوص المسمارية.
وفي موقع
أور في العراق عُثِرَ على مقبرة تضم 16 قبرًا ملكيًّا تعود إلى حوالى 2900-2750 ق
م. والشيء اللافت هنا هو احتواء المقبرة على ضحايا بشرية تُرافِق الملك في عالم
القبر، وكأنه اعتقاد بأن الميت يحيا في القبر بانتظار انتقاله إلى العالم السفلي
عبر نهر؛ فلا بدَّ من وجود حاشيته معه للعناية به. ففي قبر عائد لـآ–كلام–دك، ملك
أور، عُثِرَ على 40 مرافقًا من الحاشية؛ وفي قبر عائد للملك آ–بار–كي عُثِرَ على
ثلاث ضحايا بشرية في جزء منه، وفي جزء آخر عُثِرَ في حفرة كبيرة على 62 جثة، بينها
6 جثث لجنود وتسع لنساء. والملاحظ أن أصحاب هذه الجثث دُفِنوا في كامل ملابسهم
وزينتهم؛ أما الحرس فكانوا يحملون أسلحتهم والموسيقيون قيثاراتهم وصنوجهم. وقد
تقدَّمتْ هذه الضحايا عربتان، رُبِطَ إلى كلٍّ منهما ثلاثة ثيران، وقد جلس في
داخلها الحوذيون. أما قبر الملكة بور–آبي فقد عُثِرَ فيه على عدة جثث لنساء
رُتِّبَتْ في صفين؛ وفي آخر الصفين توجد قيثارة، بالقرب منها هيكل امرأة امتدتْ
عظامُ يديها عبر حطام القيثارة. وقد بلغ عدد الضحايا البشرية مع الملكة حوالى 25
ضحية. كما عُثِرَ في قبر آخر على حوالى 74 ضحية بشرية، منها 68 لنساء والبقية
لرجال، يبدو أنهم جنود، حيث اتكئوا على الجدار مع أسلحتهم، في حين كانت أربع نساء
يقفن أمام قيثاراتهن.[28]
وتفسيرًا
هذه الظاهرة الاستعبادية، عبر وجود ضحايا بشرية ترافق الملك في عالم القبر،
تُعتبَر، في رأينا، ظاهرة مستورَدة، لا تعبِّر عن ذهنية المشرق العربي، بدليل عدم
وجودها سابقًا وعدم استمرارها، رغم العثور على ما يدل أن موقع مدينة كيش الرافدية
قد شهد هذه الظاهرة (80 ضحية دُفِنَتْ مع حكام). ونحن نعتقد أن هذه الظاهرة مستمدة
من الطقوس المصرية: فقد عُثِرَ في أبيدوس، حول قبر الفرعون جير، خليفة خور آحا،
على حوالى 388 قبرًا، معظمها لنساء؛ والذي يبدو أنه جرى تقديمهنَّ كقرابين لكي
يرافقن الفرعون إلى العالم الآخر. وفي موقع آخر جرى دفن 269 ضحية بشرية إلى جانب
الفرعون، كما رافقتْ زوجةَ الفرعون ميرنيت 41 ضحية؛ في حين أن الفرعون أوداجي
رافقته 174 ضحية. والملاحَظ أن الضحايا يكونون من أصحاب الحرف، كالخزافين
والنجارين والحجارين والرسامين وصانعي السفن، وكلٌّ مع أدواته. وتعود هذه القبور
إلى حوالى 3100-3000 ق م.[29]
وفي موقع
أبو ضنَّة في سورية، الذي يعود إلى مطلع الألفية الثالثة ق م، عُثِرَ على عمليات
دفن تحت أرضية البيوت تمت في جرار فخارية.[30] أما في ماري في سورية، فقد لوحظ أنه
في الألفية الثالثة ق م كان السكان يدفنون موتاهم تحت التراب، دون أيِّ تابوت،
وكانت الجثة تُحاط بطبقة من الجرار الصغيرة. أما المرفقات الجنائزية فكانت عبارة
عن أوانٍ فخارية تحوي الأطعمة والشراب، بما يؤمِّن للميت قوت يومه في العالم
الآخر. أما قبور الملوك فكانت، منذ مطلع الألفية الثالثة، عبارة عن قبور ضخمة
حجرية.[31]
الطقوس
الجنائزية في العصور التاريخية
كانت
الطقوس الجنائزية تُعتبَر ذات أهمية لدى الناس في المشرق العربي. فقد ساد الاعتقاد
أنه إذا لم تقدَّم القرابين للموتى، سواءٌ الطعام أو الماء، أو لم تُقَم الشعائر
على الأموات في يوم الندب، فسوف تخرج أرواح هؤلاء الموتى المحرومين على هيئة
أشباح، تعكِّر صفوَ حياة الأحياء وتعيث فسادًا وشرًّا. فإحدى التعاويذ المقروءة
على نص مسماري تقول، على لسان إنسان يبدو أنه ضحية مرض أو شأن سلبي، ما يُفهَم منه
أنه يعاني من شبح:[32]
سواء كنتَ
شبح شخص غير مدفون، أو كنتَ شبحًا لم يلقَ عناية لائقة، أو شبح الميت الذي لم
تُقدَّم له القرابين الجنائزية أو الذي لم يُسكَب له الماء [...].
كما أن أحد
النصوص يتحدث عن أن "الأشباح الشريرة تخرج من القبر من أجل الحصول على الطعام
والماء".[33]
ولقناعتنا
الآن، في العصر الذي تسود فيه الروح العلمية، بأن حالة المرض أو الحمَّى أو كلَّ
ما كان يصيب الإنسان، كانت تُفسَّر تبعًا لحالة البنية الدماغية لديه ومدى تطورها،
لذا فإن تعليله المعتمِد على اعتقادات طقوسية، جعلتْه في حالة مرضه، سواء العضوي
أو النفسي، يلجأ إلى الإشارة بإصبع الاتهام إلى الأرواح الشريرة. وهذا ما استمر،
ولو في شكل أقل، حتى حياتنا المعاصرة عند بعض شرائح المجتمع، ولاسيما التي لا تملك
المعرفة العلمية. وتتحدث النصوص أيضًا عن شخص ابتُلي بمرض ما (حسب اعتقاده، بروح
شريرة)، حيث يتضرَّع إلى أرواح الموتى من عائلته لينقذوه، فيقول بحسٍّ وجدانيٍّ
عالٍ:[34]
يا أرواح
عائلتي، يا أرواح أبي وأمي وأجدادي وأخي وأختي وكلِّ أهلي وأقربائي ... كنت أقدِّم
إليك القرابين الجنائزية وأسكب الماء لك وأبذل العناية بك وأبجِّلك ... قفي الآن
أمام شمش وجلجامش، واعرضي قضيتي، واحصلي على قرار رأفة بحقي ... ليتسلَّم نمتار
الروحَ الشريرة التي في جسدي وأعصابي، وليمنعها نيدو من العودة ثانية. خذي هذه
الروح إلى أرض اللاعودة ودعيني، أنا خادمك، حيًّا ... سأقدِّم الماء البارد لشربك،
فامنحيني الحياة لأغنِّي بمديحك.
وثمة رسالة
من حاكم ترقا (التابعة لـماري) إلى زمري ليم، ملك ماري، يشير فيها الأول إلى أن
الإله دجن طلب، بوساطة الكاهن ماخو، إقامة الشعائر الجنائزية لروح يخدون ليم، والد
زمري ليم، حيث يبدو أن زمري ليم انقطع عن إقامة الشعائر لوالده المتوفى.[35] وهاهو
آشور بانيبال يذكر في أحد نصوصه:[36]
لقد قمت
بإعادة الشعائر التي تشمل الطعام والشراب المقدَّم لأرواح الموتى الملوك، التي
كانت مهملة، وأنجزت كلَّ ما هو حسن للإله والإنسان، للميت والحي.
وكان موعد
إقامة الشعائر والطقوس يختلف بين المدن. ففي بابل، مثلاً، كان يتم في التاسع
والعشرين من كلِّ شهر، حيث يُعتقَد أن أرواح الموتى تتجمع في ذلك اليوم والقمرُ
محاق. وكان هذا اليوم يوصف بـ"يوم سكب الماء"، "يوم القرابين"
الجنائزية، "يوم الكآبة"، "يوم الندب"، إلخ. وفي إيبلا كان
يتم في الشهر الحادي عشر من السنة – وهو شهر عشتار. أما العيد السنوي لإقامة
الطقوس فكان يتم في شهر آب في بابل؛ بينما في آشور كان يتم تقديم الطقوس في شهر
شباط.
وينبغي
الإشارة أيضًا إلى أن الطقوس الجنائزية كانت تقام أيضًا إرضاءً للآلهة، ولاسيما
آلهة العالم السفلي. فقد جاء في أحد النصوص:[37]
إنك تقدِّم
القرابين الجنائزية من أجل الحقل الذي لا ينتج ... ومن أجل الأقنية التي لا تجلب
الماء ... إنك تقدِّم القرابين لآلهة العالم السفلي.
ومن طرائف
الأمور أن إحدى الوثائق الأكادية، التي تعود للألفية الثالثة ق م، تذكر أن مَن
يُتبنَّى عليه أن يلتزم بتقديم القرابين إلى روح متبنِّيه بعد موته (أي موت
المتبنِّي)؛ حيث جاء في النص:[38]
في حياتي
تقومين بإطعامي، وحين أموت تقدِّمين لي القرابين الجنائزية.
الحرمان من
الدفن كعقاب مجتمعي ضد الأفراد في الحروب
شكَّل
الحرمانُ من الدفن عقابًا لمن لا يمتثل للقانون في مدن الدول آنذاك؛ إضافة إلى أن
الانتقام خلال الحروب، كان يركِّز على نبش أضرحة ملوك الأعداء. ففي الأدعية كان
يقال: "عسى أن يتهاوى جسدُه ولا يدفنه أحد"،[39] و"عسى ألا يُدفَن
جسده في التراب."[40] لا بل إن أحد القوانين الآشورية يذكر:[41]
إذا أجهضت
امرأة حامل نفسَها فيجب أن يحاكموها؛ وإن أدينت توضع على الخازوق ولا تُدفَن؛ وإذا
ماتت أثناء الإجهاض فيجب أن توضع على الخازوق ولا تُدفَن جثتُها.
وعلى
مسلَّة تعود إلى آي–أناتم، أمير لجش، وتؤرَّخ بحوالى 2600 ق م، ثمة صور منقوشة
تصوِّر انتصاراته على أهل مدينة أوما، حيث يظهر القتلى مكدَّسين على الأرض، وجنود
أمير لجش يسيرون فوقها، وقد نُقِشَتْ رسوم النسور على المسلَّة وهي تطير من ميدان
المعركة، حاملة بمناقيرها ومخالبها رؤوس وأيدي القتلى من الأعداء.[42] ويؤكد ذلك
نصٌّ يصف فيه الأمير حربه وانتقامه فيقول (بتصرف):[43]
ذبحتُ جيش
أوما في مدينتهم ... وتركتُ أجسادهم في السهل للطيور والوحوش لتلتهمها، ثم كوَّمتُ
هياكلهم خمسة أكوام في خمسة مواضع منفصلة.
و تذكر
حوليات آشور بانيبال أنه، في حربه ضد العيلاميين، خرَّب أضرحة ملوكهم، وأخرج
عظامهم ونقلها معه إلى آشور كأسلوب انتقام:[44]
لقد نبشتُ
قبور ملوكهم السابقين والمتأخرين الذين لم يخافوا من هيبة آشور، والذين أقلقوا
أسلافي من الملوك؛ لقد نبشتُها وعرَّضتُ هياكلهم للشمس وأخذتُ عظامهم إلى بلاد
آشور؛ لقد فرضت الإزعاج على أرواحهم وقطعتُ عنهم قرابين الطعام وسكب الماء.
ومن
الطريف، في هذا الصدد، إيراد ما فعله مردوك–بلادان حين تمرَّدَ على الملك سنحاريب.
فعقب فشل تمرُّده، أخرج هياكل أسلافه وفرَّ بها بعيدًا، لخشيته من أن يُلحِقَ
سنحاريب الأذى بها.[45]
التوابيت
مع بداية
العصور التاريخية كانت الجثث تُدفَن بعد لفِّها بحُصُر من القصب؛ أو تُدفَن الجثة
في قبر مبطَّن بالحُصُر. وهذا ما أكَّدتْه مواقع أور، تل صوان، وكيش. كما
استُعمِلَتْ التوابيت الخشبية في كيش، وعُثِرَ على توابيت طينية في موقع خفاجة.
وشاع الدفن في الجرار الفخارية في المشرق العربي، كما استُعمِلَتْ السلال في دفن
الأطفال. وعُثِرَ على توابيت فخارية تشبه "طست الغسيل"، حيث كانت
تُغطَّى بجذوع النخيل أو أغطية فخارية أو طينية.
ففي موقع
الأنصاري قرب حلب (2400-1600 ق م) عُثِرَ على مقبرة تشبه مقابر بلاد الشام من
الناحية المعمارية ومن ناحية المرفقات الجنائزية، ولاسيما مقابر قطنة والسلنكحية
وتل برسيب وإيبلا. وحوى أحد القبور هيكلاً عظميًّا لامرأة داخل جرة كبيرة لها فوهتان.[46]
وفي ماري شاع الدفن داخل الجرار الفخارية خلال الألفية الثاني ق م. وقد عُثِرَ على
جرتين كبيرتين كانت فوهة كلٍّ منهما مقابلة للأخرى. وكان من أهم المرفقات
الجنائزية ثلاثة أقنعة لرجال مُرْدٍ، مع زوائد متطاولة تمثل الأذنين؛ وقد ثُبِّتَ
القناع على صدر الميت.[47] والجدير ذكرُه أن الأقنعة هذه عُثِرَ عليها في مواقع
عديدة في الجناح الشرقي للمشرق العربي وفي أوغاريت.
شعائر
الموت في إيبلا
تقول
مرغريت يون: "من البحر المتوسط وحتى الفرات يلاحَظ استمرار العديد من مظاهر
الأثاث الجنائزي للمدافن."[48] فـإيبلا لا تشذُّ عن هذا الأمر. ويبدو، بشكل
عام، أن شعائر الموت ومعتقداته، بدءًا من السيادة الأمورية على مدن المشرق العربي
القديم، قد تجانستْ ضمن معايير معينة وضمن نظام واحد، مع الأخذ بعين الاعتبار
اختلاف البيئة الخاصة بين مدينة وأخرى.
فقد عُثِرَ
في إيبلا على مقبرة ملكية أمورية تعود للألفية الثانية ق م. وحول هذا يقول باولو
ماتييه: "إن هذا التقليد الإيبلائي يعود إلى فجر التاريخ. وقد شاع هذا
التقليد [ويقصد المقبرة الملكية تحت القصر الملكي وفي قلب المدينة] في جنوب
الرافدين منذ منتصف الألفية الثالثة ق م، كما في أور." فقد ظهرت تحت أرضيات
القصر الغربي مقبرة ملكية هي عبارة عن أربعة مدافن، أهمها مدفن الأميرة، ومدفن
"سيد الماعز"، ومدفن الخزانات.[49]
مدفن
الأميرة يعود إلى حوالى 1800 ق م؛ أما مدفن "سيد الماعز" فيؤرَّخ بـ1750
ق م. وفي هذا المدفن عُثِرَ على تميمتين من العاج، إحداهما تشي بطقس جنائزي، حيث
إنها تتألف من سلسلتين من الصفائح العاجية الرقيقة. وقد حوى المشهد الأول منها على
وليمة جنائزية مؤلفة من رجل حاسر الرأس، يمسك بعصا، ويجلس رواء منضدة مليئة بأرغفة
الخبز، ويقف أمامه عددٌ من الخدم ورجل وامرأة عاريين؛ أما المشهد الثاني فيتألف من
قردين في حالة ابتهال أمام ثور، ومن شكل ثانوي لرجل يحمل فأسًا. وقد فسَّر ماتييه
هذا المشهد، مستندًا إلى أبيات من شعر أوغاريتي تتعلق بالإله كيريت، حيث يتولَّى
الابن الأكبر والابنة الكبرى مهمة مراسم دفن والدهما الملك المتوفى. ففي المشهد
الأول يكون الملك هو صاحب الوليمة الجنائزية، ومن بعدُ تُمسَخ روحُه بعد الوفاة في
شكل ثور يبتهل له القردان. ويشير ماتييه إلى تفسير هذه المشاهد وفق أسطورة
تموز.[50] [الجدير ذكرُه أن مدافن تلك الفترة تتشابه مع مثيلاتها في أريحا في
فلسطين وجبيل في لبنان.] وقد دلَّتْ المقبرة الأمورية في إيبلا على ظاهرة عبادة
الأجداد أو عبادة الملوك (ماتييه).[51] ونحن نعتقد أن الظاهرة هنا لا تعبِّر عن
عبادة الأجداد بالمعنى القبلي، لأن نظام إيبلا السياسي شهد ملوكًا مختلفين، لا
يشكلون علاقة أسرية متوارثة؛ وبالتالي فنحن أميل للأخذ بتقديس الملوك بعد موتهم.
الموت في
أوغاريت
تمَّ
اكتشاف الكثير من المدافن في أوغاريت، حيث توضَّعتْ تحت أرضيات المساكن. فالبيت
الأوغاريتي، بشكل عام، يحتوي طابقُه الأرضي على مركز للأعمال الحرفية أو المنزلية
والمستودعات، ويكون مفتوحًا على الشارع؛ وثمة طابق ثانٍ، مخصص لسكن العائلة؛ وربما
يوجد طابق ثالث، ثم السطح. أما تحت الطابق الأرضي فيتوضع مدفن العائلة ويكون لها
باب على الشارع مباشرة، إضافة إلى ارتباطها ببقية أجزاء المنزل.[52]
عُثِرَ في
أحد المدافن ضمن المنازل على مرفقات جنائزية تضم بيوض النعام التي كانت تُستورَد
من مدن المشرق العربي الأخرى. كما كانت القبور تحوي على الأسلحة والحلي. وعُثِرَ
في القصر الملكي على مدافن ملكية كبيرة تعود إلى حوالى 1400 ق م؛ وحوى أحد القبور
على منحوتة لموسيقي يعزف على صنجين.[53]
وقد تمت
قراءة أحد النصوص الأوغاريتية التي تتحدث عن أرواح الموتى (الأبوم)؛ ويبدو أنها
مرتبطة بعبادة أو تأليه الموتى (ربما الملوك)، أو إقامة شعائر جنائزية في ما يسمى
بـ"المرزح". ويبدو أن المرزح كان عبارة عن مؤسَّسة اجتماعية تُعنى
بالطقوس الجنائزية التي تقام في دار مرزح للندب على الأموات، وربما استذكارهم، حيث
يُقتسَم الخبز ويُشرَب الخمر للتعزية بالأموات. وفعل "رزح" يفيد معنى
السقوط على الأرض. وقد افترض جوناس جرينفلد أن ثمة توافقًا بين المرزح وبين طقس
كيسبو الرافدي: فالمدعوون إلى الوليمة يكونون الأجداد وأرواح الموتى.[54] ويبدو أن
المرزح كان يشمل وليمة جنائزية، تتمُّ عبرها دعوة أرواح الأجداد لذكراهم والتبرُّك
بهم. وفيما يعاصر أوغاريت، نميل نحو أريحا في فلسطين، حيث أد